الثلاثاء، 28 يناير 2014

نحن والمسار الحانوتي الحلقة (الثانية) د. الشيخ المختار ولد حرمه

نحن والمسار الحانوتي الحلقة (الثانية) د. الشيخ المختار ولد حرمه
قال الله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه}. (التوبة). مما يروى بكثرة من قصص الرجل الصالح حمدن رحمه الله.. أنه قام ذات مرة ليحلب الغنم، فحمل "التاديت" وأخذ برجل كبش، فقيل له : يا حمدن.. هذا كبش لا يمكن أن تحلبه.. فرد بلغته ذات الحمولة المعروفة "فقط.. لتدرك النعاج أنني قادم لحلبها".
قبل أن أبدأ هذه الحلقة، أطمئن من يهمه الأمر أنني سأرد، ولو ردا عابرا، على التساؤلات العامة الجوهرية التي طرحت في سياق الحلقة الأولى من هذه السلسلة..
لقد رأيت ما كتب من التساؤلات الكثيرة عن سر هذا المنعطف الذي اخترته، وعن توقيته.. ولماذا أعاكس التيار وقد تحول إلى إعصار، و في ظل الزعم بأن المعارضة تلاشت وأنها لا توجد اليوم في أحسن مواقعها عبر تاريخها؟ إذا على من أعول في هذا الدرب الجديد، وكيف أتجاوز ما أسماه البعض صورتي السابقة في النظام.. باعتباري حرقت جميع مراكب العودة؟
أولا: لا أظن مقامي بـ"حانوت أدويره" قد خلق لي حالة تألق، وإن كنت أصلا لست من هواة التألق، ولم أضعه في أولوياتي ضمن ما أتصوره خدمة عمومية تعبدية، خالصة لله تعالى و خالية من الحظوظ الذاتية، أقدمها لوطني وشعبي. مع أنني في كل محطة من حياتي السياسية كنت أسمع من يقول لي إنني أحرقت مراكب العودة واحترقت! باختصار شديد لا أظن أن في السياسة مراكب تحرق.. وعودة مستحيلة.. فمراكب الحق لا سبيل لحرقها، و العودة على متنها من ظلمات الوهم و الغي و الباطل إلى مواطن الحق الساطعة  فضيلةٌ ما يُلَقاها إلا من نور الله بصيرته، و اجتباءٌ    {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه و يهديهم إلى صراط مستقيم} (المائدة). و لنا في أبينا إبراهيم عليه السلام أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} (التوبة).
ثم إن الشجاع الحقيقي أو السياسي الفعلي هو من لا يرهن نفسه لأشياء صغيرة، وبالتالي يمكنه اتخاذ قراره في كل وقت لاستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. و إذا كان الخطأ فطرة  بشرية فإن خير الخطائين التوابون. وفي هذا المقام  فإني أعلن توبتي في ما فرطت في جنب الله قولا أو عملا، إفراطا أو تفريطا، قصورا أو تقصيرا. راجيا أن أكون من "الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم. ومن يغفر الذنوب إلا الله و لم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم و جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و نعم أجر العملين" (آل عمران) . 
إعلان التوبة هذا موجه بعد الله تعالى الذي يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور، إلى إخوتي في المعارضة لما قد صدر مني حينا من الدهر من ما لا يليق بمقامهم الشريف، دفاعا عن قناعة تبين لي لاحقا زيفها إذ كانت مؤسسة على مغالطات و دعاوى تضليلية. ثانيا:أنا لا أعتمد على ما تعرضه ساعات الآخرين، ما دمت لم أضع في ساعتي سوى بوصلة ضميري.
وإذا كنت احترقت، كما قال أو تصور البعض، فإنهم قد يكتشفون لاحقا أنه احتراق من النوع المفيد.. ليس احتراق تواطؤ و لا خيانة و لا تبعية عمياء. فالمحرك الذي يشتعل هو الذي يتحرك.. والمحرك الذي لا يشتعل لا يبشر عادة بخير. هذا شيء يعرفه الميكانيكيون. وللمحايدين و أصحاب القلوب الصافية، و قليل ما هم.. أربأ بهم أن يتصوروا أنني اتخذت هذا الموقف كردة فعل على فقدان وظيفة أو امتيازأنا بفضل الله في غنى عنه. ولم أغذي يوما جسدي بحرام و لا بالمال العام. "لقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون"؟.. و ما أسهل الحصول على ذلك المبتغى لو كان هو فعلا ما يحرك قلمي، أو يغير موقفي، وأنا أتلقى عروضا مفتوحة بوظائف مهمة في الخارج.
لقد دخلت في حلف سياسي على أساس برنامج إصلاحي استهواني و اقتنعت به لمثاليته، (و من خدعنا في الله انخدعنا له). دخلته كشريك فاعل لا أجير و لا إمعة مفعول به.. دخلته عاملا وفيا و نزيها، وناصحا أمينا و موجها بصيرا في كل أمور الدولة.. وكان ردي على الشقيقة الجزائر (وأنا وقتها عضو في الحكومة)، رغم ما أكنه لهذه الدولة العريقة من فائق الاحترام و التقدير، دليل على أنني لا أعبأ بالتبعات الشخصية لمواقفي المؤسسة على قناعتي، خاصة إذا تعلق الأمر بالمصلحة العليا للوطن أو المساس بسيادته و هيبته. و سأعود لهذا الموضوع بالتفصيل إن شاء الله في الوقت المناسب.
أمَا وقد أكدت لي التجربة أن المطلوب لا يتعدى حصر مصالح الأمة في جيب شخصي، فعودوا إلى ما فعل السابقون في الإسلام بأصنامهم بعد أن نحتوها وكانوا يمسحونها ويزينونها كل يوم.
أعود للأمور الجوهرية والتي يمكنها التنوير حول السبل التي يجب أن نسلكها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من "حانوت أدويره" وحتى لا نكرر نفس موقف التعاطف مع "الوكاف" ونشارك في جريمته بإعلان تضامننا اللامشروط معه.
نعم لقد خرجت أبتغي سبيل الهداية الوطنية بعد أن اكتشفت أنني كنت في جوف هبل.. وأنه يستحيل تحويل هيكله إلى مسجد.
وأنا الآن خارج هيكل الصنم، والذي لا يملك من الصنم عفته، على حد تعبير المتنبي، فإنني لست مستعدا لتضليل الرأي العام الموريتاني بطرح أنماط شعبوية افتراضية للتغيير الذي أصبح أمرا ضروريا بل حتميا و مصيريا، و قد هوى بنا سوء التسيير الأحادي المزاجي و التدبير الارتجالي و الذوق الرديء إلى الدرك الأسفل من الانحطاط الذي ليس بعده إلا التلاشي و التفكك. لا قدر الله. علينا كنخبة سياسية أن نتجاوز وهمية ما يسوق كحلول مثالية، إلى الواقع المرّ الماثل للعيان، والذي يؤكد استحالة التناوب السلمي على السلطة، بعد أن تحولت مؤسسات الجمهورية إلى مغلفات بضائع محشوة بالديناميت في الوطن / الحانوت.
إنني هنا أتساءل عن أي ضمانات يمكن أن تتوفر في موريتانيا للتبادل السلمي على السلطة عن طريق الانتخابات، أي انتخابات، يديرها الطرف المنافس. الاستلام لخدر مظهر من هذا النوع يشبه الاقتناع بمشاركة أسماك القرش الأبيض في حفل للسلام. لأنه من المسلمات البسيطة أن النظام حال كونه خصما و منافسا لا يمكنه أن يكون حكما عدلا على الإطلاق. هذه المغالطة هي التي أفشلت و أفسدت مشروع الديمقراطية في بلدنا. ويريد أولئك الذين يستفيدون من هذا الوضع أن تستمر الحالة على ما هي عليه موهمين أنفسهم برؤية بعض الورود، مع تمام إدراكهم أنها ورود ذابلة أنبتت بين الأشواك الحادة و تتغذى من مستنقع من سموم لا بارد و لا كريم.
أنا، في هذه الحالة، لست مؤيدا لثورة شعبية، ولا لفكرتها، وذلك لثلاثة أسباب:
الأول أن النظام الحانوتي زرع ألغامه بين نسيجنا العرقي والمجتمعي، و حتى الجهوي ليستغلها ساعة الاضطرار وفق القاعدة الشمشونية "علي وعلى أعدائي".
والثاني: أنني لست مقتنعا، إطلاقا، أنه بات لدينا وجود لحالة "وعي عمومي"، من النوع الذي يفرض التغيير الديمقراطي السلمي، رغم وجود نخب متميزة وآلاف الشباب المتعلم الواعي المستعد للتضحية، والمؤمن بقيم الحرية والتنمية، الشباب الحي الذي يحترق بهموم وطنه وأمته وبواقعها البائس في هذا البرزخ المعيشي، الذي تنهب ثرواته من ذهب وحديد وسمك ونفط وغيره، وتروح أدراج جشع و أهواء النفوس الصغيرة السفيهة.
والثالث: أن الثورات بشكلها العامي الراهن أصبحت مطية الآخر (الداخلي و الخارجي) للقضاء على الدولة المركزية، ونتائج الربيع العربي الكارثية كفيلة بأخذ الدرس.
هكذا لا يكون أمامنا فرصة للربح من أي مغامرة تغيير غير محسوبة في بلد تسوده الأمية والعصبية القبلية والعرقية القاتلة.
هنا لا أرى الآن، كما لم أر من زاوية الضفة الأخرى حيث كنت، أن الدعوة للثورة، أو لانتخابات حتى لو كانت توافقية وشفافة سيكون حلا للأزمة التي تعيشها البلاد. لأن الهوة عميقة و أدوات الفوضى أكثر بكثير من أدوات الثورة  في الحالة الأولى، أما في الحالة الثانية، فلا يمكن تصور نتيجة إيجابية لشفافية تقنية للانتخابات، وليس سيناريو رئاسيات 2007 ببعيد.. في تلك الانتخابات الأقل تزويرا في تاريخ البلد، صحيح أن الرئيس وقتها لم يخلف نفسه، لكن النظام لم يفقد الحكم، و هو من دعم ترشحه و ضمن نجاحه  و هو من خلعه.
للأسف الشديد فإن ما نعيشه منذ ديمقراطية "ميتران 1990"، هو أن نخبة واحدة تتصارع بجناحين. وهذا ليس خطأ شائعا نصوبه هنا، بل هو الحقيقة المرة التي عمت بها البلوى.
لا يعني ذلك أن زعماء المعارضة التاريخيين، ومن بينهم مثقفون ووطنيون قطعا، انطلت عليهم الحيلة فوجدوا أنفسهم مرغمين على السير في الجلبة، بل لعله عائد إلى إتقان لعبة النفق البهلواني وإلى رَيْعِية التفكير السياسي الجيبي عند البعض، الذي هو تفكير آلة حاسبة في أحسن الأحوال، بدلا من تفكير النظرة الشمولية لروح الأمة وعائداتها.
أعني هنا بالمعارضة التاريخية كل فريق الإصلاح من خارج النظام ومن داخل دوائره.
في هذه المرحلة، يبدو وكأن المعارضين التاريخيين استسلموا للأمر الواقع، أو بدا لبعضهم بألعاب الحيل البصرية أنه أمر واقع، فقرر البعض منهم اختيار رمزية الموقف التاريخي بدل الاستمرار في عبثية تشريع مرحلة بعد أخرى، فيما آثر البعض الآخر الشعار التليد "خذ وطالب".
تظهر هذه الصورة القاتمة، وكأنها قدر محتوم يطبق على أنفاس التغيير ويمنع مضغته في رحم أحلام الأمة أن تتحول إلى عظام يكسوها اللحم.
ولكن هل الصورة نفسها قاتمة، أم الأجواء من دونها هي الملوثة وغير الصافية بحيث لا تسمح لنا برؤية طريق التغيير من خلال صورة الواقع؟
إن واقع موريتانيا في 9 يوليو 1978 لا يختلف عن واقعها الآن عند البحث عن الكأس المقدسة للتغيير.فجميع دوافع التغيير التي كانت قائمة آنذاك هي نفسها قائمة الآن بشحمها ولحمها ، بل لعلها أدهى. لنستعرض هنا كيف كان التغيير يتم في موريتانيا.. الأمر معروف، لكن المراجعة قد تفيد: أمام حالات الانسداد و الأزمات التي مرت بها البلاد و في غياب وعي مجتمعي يفرض التغيير و التناوب السلمي على السلطة، لم تجد النخب المدنية وقتها,ـ اختصارا للطريق ـ بديلا عن التوجه إلى الجيش، من أجل تحقيق هذا الهدف. هكذا كان السياسي الموريتاني الوحيد الذي فهم لعبة "اختصار الطريق" هذه هو أخي و صديقي محمد يحظيه ولد أبريد الليل أطال الله بقاءه.. وإن عانى هذا المفكر الكبير من "حظ النرد".. ففي كل مرة كان ينثر فيها كنانة النرد العسكري، كانت حبة النرد الأقل أهمية هي من يصعد إلى المشهد. فالذي كان يحدث هو انقلاب داخل الانقلاب: انقلاب على السلطة القائمة للخروج من مأزق النفق المسدود، و انقلاب على مشروع التغيير في زعم غياب نخبة سياسية ذات مصداقية و مهيأة لاستلام و ممارسة السلطة. لذا لم يستفد البلد من الانقلابات المتتالية لأنها لم تحدث التغيير المنشود و لم تكن نتيجتها يوما سوى استبدال شخص بآخر.
هكذا ومنذ العاشر يوليو 1978، وطوال تاريخ الدولة الموريتانية، لم يكن التغيير إلا عن طريق المؤسسة العسكرية و منذ ذلك التاريخ و إلى يومنا هذا، و الجيش الموريتاني يمارس الحكم تارة بمواثيق و لجان عسكرية و تارة تحت يافطة من شعارات الديمقراطية (الدستورية، التعددية، الاقتراع...) هذا التغيير يتم في غالب الأحيان عن طريق دائرة الصف الأول، وهي عادة دائرة صغيرة، من المفترض أن لا يسمح بوجود أبواب و نوافذ فيها. لكن عكس ما هو شائع، ورغم الفقدان الظاهري للأبواب والنوافذ في كل مرحلة، فلا يمكن بأي حال من الأحوال غلق منافذ التغيير من داخل الجيش و التي تمكن من ربط جسور تواصل بين أفراد من الجيش و أفراد من النخبة المدنيين القادرين على زرع قناعة التغيير. بيد أن هذه الدائرة لا تتحرك عادة إلا حين تقتنع و تتأكد أن كيان الدولة أو أمنها و استقرارها أصبح مهددا أو أنها مستهدفة في وجودها و أن عليها التضحية بفرد لإنقاذ المجموعة.
أما دائرة الصف الثاني، فهي التي تحركت في 8 يونيو 2003، وهي دائرة تصعب السيطرة عليها، بقدر ما أن نتائج تحركها تعتمد أيضا على مستوى من يؤطرها نظريا على فكرة التغيير. الواقع أن النخب السياسية وقعت على مر الزمن في خطئ تاريخي لعدم ربطها لأي صلة بالجيش و اعتباره عدوا و مجرد حارس باب معقل الحكم الفردي بدل اعتباره حارس و راعي مصالح الأمة  و الركيزة الأساسية للدولة.
لا بد من تصحيح هذه النظرة الخاطئة  و الصورة الظالمة لمؤسستنا العسكرية. فيها كما في غيرها من معظم جيوش العالم نخبة من الضباط الأشراف الأكفاء الأذكياء الغيورين على وطنهم أمنا و استقرارا و سمعة و حضارة و تاريخا، المستعدين للتضحية بأرواحهم في سبيله. إن الإيعاز للجيش، كما نسمع في بعض المناسبات، بمقايضة موقفه من الديمقراطية مقابل تحسين وضعيته ماديا ومعنويا أمر يدعو للضحك.. أن النخبة الديمقراطية، الواعية، المتعلمة داخل الجيش تدرك تماما عبثية التغيير الانتخابي في ظل المنظومة الحالية و هي على مستوى فهم أن الديمقراطية هي أقوى سلاح لدى الجيش ولدى الدولة.. و أن التغيير لا يمكن أن يكون بحجم استبدال شخص بآخر، بل وفق برنامج غير تقليدي عن المصالحة والتحرر والتنمية..  هذا الوجه المشرق و المشرف لجيشنا الوطني دائما ما يتم  اختطافه بمؤامرة سياسية مدنية تقليدية. فكلما فشلت النخبة السياسية في أداء دورها ألقت باللائمة على الجيش الذي هو في نفس الحين أول ضحية للأنظمة الاستبدادية الفردية القبلية، ولمساراتها الحانوتية التقسيطية. لكن  كتب عليه أن يبقى صامتا من غير خرس.
إن موريتانيا ليست بحاجة إلى انقلاب عسكري عاشر بمفهومه المكيانيكي و الذي لن يكون سوى البدل الأعور الذي لن يأتي إلا بما هو أسوء. إذا أين المفر؟ أين السبيل إلى التغيير السلمي الذي يتوق إليه هذا الشعب المسكين؟ كيف القضاء على هذا البعبع الذي يتولد من نفسه و يقضي على كل المحاولات الجادة للإصلاح؟ إن ما أشرت إليه سابقا من عبثية التغيير الانتخابي في ظل المنظومة الحالية لا ينفي عدم القدرة على استغلال الوضع من زاوية أخرى يمكن أن نطلق عليها "الانقلاب الانتخابي" الذي هو عملية سياسية صرفة، تتطلب جاهزية و احترافية سياسية كبيرة.
إننا بحاجة لإعادة قراءة تاريخ الآباء المؤسسين للحضارات العظيمة، وحتى للدول التحررية في القرن العشرين القريب منا جدا.. وهو أمر مفيد لأي نخبوي سياسي يريد الخروج فعليا من لعبة النفق البهلواني. كما يجب أن نتعلم ولو القليل من فن أقصر الطرق و البدائل.. فقد أنفقت أمريكا ملايين الدولارات لحل مشكل علمي عويص واكتشاف قلم يكتب في الفضاء لتمكين رواد الفضاء الأمريكيين من كتابة أبحاثهم داخل مركباتهم، ولكن روسيا حلت المشكلة بسهولة من دون إنفاق دولار واحد لأن رواد الفضاء الروس استخدموا قلم الرصاص. إن للتغيير في بلدنا أكثر من مبرر، لكن إن من دواعيه الملحة هو المنعرج الاستراتيجي الخطير الذي اتخذ فرديا، وبالوكالة عن البلاد دون أن تعلم به أخص دوائر الدولة وأكثرها اطلاعا. و تماما كعدم شعور الكائنات بحركة دوران الأرض، مرت موريتانيا خلال الفترة الوجيزة الماضية بمنعطف شديد لم يشعر به أحد رغم أنه حاد جدا، وسيضعها على سكة مستقبل ملغوم. ما في ذلك من شك.
وهنا علينا أن نجيب عن سؤالين مركزيين:
أولا، هل يمكننا التذاكي إلى حد أننا نستمر منذ أربع سنوات في خداع شركاء الدم والتمويل.. أهلينا و إخوتنا في دول الخليج... ونحن في الحقيقة لا نخدع سوى أنفسنا بالتمكين لإيران في المنطقة، موهمين الحلفاء أننا نخدمهم بعلاقتنا مع طهران، وبأننا عين لهم في الداخل هناك.. والواقع أننا سمحنا لإيران بتمرير أموالها ونشر فطر عقيدتها داخل حقلنا وحقول الجيران.. ومن يجرؤ اليوم على السؤال عن عدد الشيعة في موريتانيا وما يدور في حسينيات نواكشوط، وما يخطط له "حوثيو موريتانيا" هنا، وفي المجتمعات المجاورة التي ينخرها الجوع والفقر والأمية وهشاشة العقيدة، وهي تربة مثالية لاحتضان العقيدة الشيعية في بعدها الصَّفَوِي.
أما السؤال الثاني: ما فائدة عودتنا للانغماس في مستنقع النزاع حول الصحراء.. وهل بإمكاننا السباحة في وحل آسن متشابك إقليميا ودوليا لم تخرج منه الجزائر بكل مكانتها المعنوية والمادية منذ أربعة عقود وحتى الآن؟ لماذا نتصور أن بإمكاننا المساهمة في استنبات ربيع صحراوي، ونستلم الأوامر التي تحدد دورنا في اللعبة القاتلة القادمة.. لعبة احتساء كؤوس السم.
ما يفوت البعض هنا أن الحرب الماضية في الصحراء إبان السبعينات كانت "حرب تغيير حدود"، أما الحرب القادمة فستكون يقينا "حرب تغيير وجود".. في الحقيقة تكفي "شُكوة واحدة" بتعبير ولد بونا.
إن الأمم التي تكون مواقفها ومصالحها الإستراتيجية رهينة هوى متبع و مزاج شخصي ارتجالي، غالبا ما تنهار ديمومتها وتتكبد خسائر كبيرة.. وللحيلولة دون ذلك يلزم، وبسرعة، أن نتحرك، وفي كل الاتجاهات أفقيا وعموديا، من أجل إحداث التغيير لتلافي الكارثة.. التي رصدتها عين "يمامية".

يتواصل

الاثنين، 27 يناير 2014


نحن والمسار الحانوتي (الحلقة الأولى) د.الشيخ المختار ولد حرمه ببانا

"و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قومي إني بريء من ما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين" (سورة الأنعام)
لقد عودت الموريتانيين أن أكتب رأيي في كبريات القضايا الوطنية المطروحة، وعلى أن أعبر عن وجهة نظري في الشأن السياسي بكل وضوح، وبكل جرأة.. لأن الجرأة أولى أدوات الحق.. ومنذ دخولي الساحة السياسية الموريتانية لم أتوكأ على عصا العمل السياسي السري.. لقد كنت دائما أعمل فوق التراب، ولم تغرني يوما الكواليس المشبعة بإغراءات كثيرة.. وكنت أشفق على من أراهم يحفرون الأرضيات تحت أقدام منافسيهمإنهم لا يخفون علينا
لم أكن من السياسيين الذين لا يكتبون للرأي العام لتوضيح رؤيتهم وأفكارهم.. فاحترام السياسي لمواطنيه يجب أن يترجم أولا في أن يكتب لهم رؤاه حتى يستفيدوا ويشكل لهم رافعة، أو يصوبوا ما كان من أرائه خطأ... إنني لا أحب السياسيين الذين يكتفون بالبوق ويبتعدون عن القلم.. القلم وثيقة تاريخية لنا أو علينا.. أما اليوم فإننا نشاهد ميل كثير من السياسيين نحو "الطاووسية"، إن صح التعبير، وهي الحرص على تقديم صورة شاشاتية ترويجية كاذبة في أغلب الأحيان، وفيها الكثير من التكلف والتطبع والتنطع والتمظهر الكاذب.
لقد قلت لولد الطايع 2003 إنني أرفض الإغراءات التي عرضها علي، ونصحته بثورة داخل نظامه وببدء ديمقراطية حقيقية سيكون هو المستفيد الأول منها.. لم يستوعب ما قلت له فدفعت ولد هيدالة للترشح ضده، فكان ما كان من ما يعرفه الجميع من ما لا داعي لبسطه هنا، فكانت بداية العد التنازلي لحكمه... كان يتصور أنه قمة الديمقراطية وأن البلد أصبح على القمر... كان فخامته في برج عال.. بل لعله كان في بالون انقطع حبله وصعد في الأجواء وكان يظن أن رجليه على الأرض بينما كان يسبح بعيدا جدا..إلا أن الحق سبحانه أخذ على نفسه أن لا يرفع شيئا إلا وضعه لتكون الكبرياء و العظمة و البقاء لله وحده.
كانت صورة واقع الرجل واضحة لي.. و كنت حقا أتأسف لحال أولئك الذين يحرصون على تنظيف جيوب الموتى السياسيين وتسجيل أسمائهم في سجل ورثتهم.. وقبل ذلك وبعد ذلك لم أكن لأرهن نفسي أو أبيع مصلحة شعبي بامتياز شخصي.. يحسبه البعض كذلك.. وأعتبره تكليفا شاقا..
اليوم، وموريتانيا تمر بالظروف الحالية، وهي لا تحتاج للشرح ولا للتشريح ولا التأطير و لا التكييف أو التعليل.. لأنها واقع ماثل للعيان.. يراه الجميع ويسمعه، إلا من كان به صمم بصيرة.. اليوم أجدني مضطرا بل ومطالبا بتوضيح وجهة نظري.. تماما كيوم عبرت عنها من داخل عنبر "أكوانتنامو واد الناقة".. حين كنت وقتها ورفيقاي ولد هيداله وولد داداه في تلك الزنزانة.. فكتبت مرافعتي المشهورة تحت عنوان "ربي السجن أحب إلي مما يدعونني إليه".. و تماما، حين نصحت زعماء منسقية المعارضة الحاليين بان الرهان على الثورة الشعبية في واقع مجتمع كالمجتمع الموريتاني هو رهان خاطئ و خاسر، كمن يراهن على العاصفة في إصلاح الأبواب.
قبل الدخول في التفاصيل.. أودّ من هذه الحلقة التمهيدية الإشارة إلى بعض الأمور التي قد تكون سطحية ظاهريا وغير مهمة.. ولكن ستظهر دلالتها في الحلقات القادمة.
أولا، أعرف مسبقا أن هذه الحلقات ستثير من الغضب ما لم يثره غيرها في تاريخ هذا البلد.. و أتوقع أن تكون ردود الفعل قاسية بأنماطها السكينية المختلفة.. أعرف ذلك تمام المعرفة..
ولكن، أقول لنفسي، ولأولئك الذين سيفاجئهم مضمون ما سأنشر في وقت لاحق، أنني أعي تماما مسؤوليتي التاريخية في هذا الظرف، تماما كما وعيتها في الظروف السابقة، وأنني مستعد لتحمل ردود الفعل أيا كان شكلها معنويا أو حسيا... أليس من أوقد نارا لتضيء ظلاما دامسا عليه أن يدرك أن الحشرات بكل أشكالها ستقع عليه..!
بالطبع نعم.. إننا في زمن يقابل فيه من يقول الحق بإزعاج الحشرات و العظاءات والخفافيش الكلامية والبلطجيات العابرة للأخلاق.
هكذا أردت للبعض أن يفهم قبل أن تلتهمه النار الموقدة، إذا لم يستسغ الاستفادة من ضوئها ودفئها في طريق إرادة تجاوز الشتاء الوطني القارس.. "وڲاف حانوت أدويره".
شكلت مدينة "أدويرهإحدى أولى "المدارس التجاريةالموريتانية.. نقطة التقاء للموريتانيين في أول صدمة المدينة، والتجارة المدنية/ الريفية.. كانت ملتقى ومعبرا للقادمين والرائحين بين الشاطئ العربي والإفريقي.. أيام كان الوطن واحدا.. كانت "أدويرة" معبرا لكثير من السياسيين والمثقفين والشعراء. وحيثما وجدت التجارة عبرت السياسة والثقافة..
في بداية القرن الماضي، كانت "أدويره" بالنسبة للموريتانيين بمثابة "هونغ كونغ".. وكان العائد منها إلى الأرياف الموريتانية عائد من "كوكب الحوائج".. حاملا المواد الغذائية والملابس ومؤن أهل البادية..
من "أدويره"، انطلق بعض أول التجار الموريتانيين في العصر الحديث... كم نحن بحاجة من خلال تاريخ هذه المدينة إلى من يروي جزئية مهمة من حياة شعبنا في نقطة تحول معينة.. ذلك مجال آخر من اختصاص الرواة والباحثين والمؤرخين.. ما يهمنا هنا هو قصة "وڲاف حانوت أدويره" و هي من أشهر القصص التي حفل بها مجتمع "أدويره" آنذاك.. حكى لي هذه القصة الطريفة أحد أعلامنا الأخيارارتأيت أن أوردها هنا لرمزيتها و ما تحمله من دلالات و عبر.قصة هذا الحانوت أنه كان الأكبر من نوعه في المدينة وكان صاحبه من أكبر ملاك الثروة التجارية آنذاك.. وكان يعمل في الحانوت عشرات البائعين والمساعدين، وذات يوم دخل عليهم شاب وسيم، في مقتبل العمر وطلب من رب الحانوت تشغيله.. فوافق هذا الأخير، وبدأ الشاب الوافد يتعلم عمليات البيع والشراء وتنظيم البضاعة وتفاصيلها.. ولأنه كان شابا يطفح حيوية ونشاطا فقد تعلم بسرعة قياسية، وأبلى في العمل بلاء حسنا، فقد أصبح الحانوت نظيفا، وبضاعته مرتبة بشكل جيد وجذاب وكان يعامل الزبائن بأخلاق طيبة تجعلهم يعودون إليه كل مرة، بل ولا يساومونه في الأسعار.. مضت فترة وتمكن خلالها "الوڲاف " من إثبات جدارته، والوقوف على قدميه كأفضل عامل ماهر في التجارة.. ولم يكن ذلك إلا الخطوة الأولى.. فخلال إحدى جلساته مع رب عمله قال"الوڲاف": ألم يتحسن العمل في الحانوت قليلا".. فرد رب العمل "بالطبع.. أرباحنا تضاعفت بفضلك أنت.. وأصبحنا منظمين ولا يمكن لأحد منافستنا الآن".. فرد "الوڲاف" قائلا: "لم أقم بأي شيء حتى الآن.. لأن زملائي لا يعرفون التجارة.. وكنت أطمح لأن نضاعف الأرباح أكثر، وأن نحول الحانوت إلى مؤسسة كبيرة تقوم خلال المستقبل بفتح فروع لها في مدن أخرى... لم يتردد رب الحانوت في اتخاذ ما اعتبره قرارا تاريخيا مفصليا في حياته المالية والتجارية.. فجمع عماله وأصدر قراره بتولي "الوڲاف" إدارة الحانوت وكل شؤونه.. بل وأعلن رب العمل أنه سيتوجه للبادية للاستمتاع بعطلته لأنه متعب من الإشراف على العمل منذ سنوات.. ولأنه الآن وجد الرجل المناسب في المكان المناسب.. أو "الوڲاف" المناسب في الحانوت المناسب.
شعر "الوڲاف" أن الجو خلا له، فتخلص أولا من زملائه الذين يدينون بالولاء لرب الحانوت.. واكتتب عمالا جددا يضمن ولاءهم له، وتوجه نحو موردي البضائع مقدما طلبيات كبيرة لم يترددوا في إدانتها ل"الوڲافالمعروف بجودة عمله وانضباطه وخبرته التجارية.. وخلال أسابيع كان الحانوت في أبهى صوره فقد تضاعف رصيده من البضاعة، وازداد زبائنه ومودعوه.. وكانت أخبار هذه "الإنجازات" تصل أولا بأول لرب العمل في باديته، وكان تطور الحانوت حديث سكان المدينة.. وهكذا استمرت الأمور.. إلى أن علم "الوڲافبأن رب عمله ينوي القدوم لإجراء الحسابات.. فأخذ "الوڲاف" يبيع بضائع الحانوت بأسعار مخفضة ولا يشتري بضائع جديدة، ثم جمع الأموال وأضاف إليها الودائع، وقام بتهريبها إلى "مكان آمن" خارج البلد.. وبالمقابل أخذ آلاف الكراتين الفارغة وملأ بها الحانوت بحيث يتصور من دخله أنه زاخر بالتجارة، عامر بالخير، كما يقولون،.. وهي الصورة التي تولدت لدى رب الحانوت فور عودته، حيث أخذه "الوڲاف" إلى غرفة داخلية وأغدق عليه بالضيافة والحديث الودي الطريف.. وقال له "اليوم استرح.. وغدا نقوم بجرد البضائع وإجراء الحسابات".. الشيء الذي وافق عليه رب العمل بكل طيبة نفس، فأخذ لنفسه قسطا من الراحة عقب يوم سفر شاق، وما إن صلى العشاء حتى غط في نوم عميق.. عكس "الوڲاف" الذي استخرج حاوية بنزين ودخل الحانوت من باب خلفي وسكب البنزين وأشعل عود ثقاب ليخرج بسرعة ويدخل على رب عمله ويتكئ جنبه وكأن به خؤولة من أهل الكهف..
تصاعدت أعمدة الدخان من الحانوت قبل أن تتبعها ألسنة النيران ملتهمة الحانوت في ثوان حتى قبل أن ينتبه الحراس والعمال النائمون داخله والذين توفي بعضهم وأصيب البعض الآخر إصابات بليغة.
فيما هرع سكان المدينة إلى مكان الحريق حاملين ما تيسر من أدوات نجدة، كان رب العمل في الغرفة الداخلية يعاني من ضيق التنفس جراء الدخان وكان يحاول إيقاظ "وقافه" ليستطلع الأمر دون جدوى.. فـ"الوڲافالمخلص يغط في نوم عميق مصطنع.. لكن الجلبة أيقظته في النهاية ليخرج هو ورب عمله من باب آخر ويهرعا إلى المشهد المروع حيث آلاف العيون الشاخصة تتفرج على النيران التي التهمت الحانوت.. "حجاب" .."عين".. عبارات تطايرت من أفواه المتفرجين وسكان المدينة البرءاء.. ورب العمل الحليم..
لقد مات ضحايا، ورقد آخرون فيما توفر من عناية طبية تقليدية.. وأصبح حريق حانوت أدويرة الموضوع الوحيد للنقاش والتكهنات بين جموع العامة والخاصة..
بالنسبة لرب العمل لم يكن هنالك أي مجال لإجراء الحسابات.. ف"الإنجازات" التهمها الحريق قضاء وقدرا.. والحريق لا يفرق بين بضائع الحانوت وديون مورديه ورصيده المالي والودائع..
انطلت الحيلة على الجميع في المدينة وعلى رب العمل... الذي ودع "وقافه" بدموع حارة، مؤكدا له أنه لن يدخر جهدا في سبيل جمع مبلغ يكون بداية جديدة لهما..
ولأن أضعف رائحة لأي جريمة أقوى من أن تخفيها كل الأغطية مهما كانت سماكتها... فما هي إلا أيام، وأصبحت الحقيقة معروفة لدى الجميع.. قام "الوڲاف" بحرق الحانوت لإخفاء أثر جريمته ومخطط الخيانة الدنيء الذي رسمه وسهر الليالي من أجل تنفيذه.. لقد كان مستعدا أن يحرق كل شيء عمومي و يزهق الأرواح البريئة من أجل الاستيلاء على شيء من مصلحته الخاصة.
هل من هنا انطلقت عقدة الموريتانيين من الأنظمة الحانوتية التي تعاقبت على رقابهم؟.. العقدة من الحاكم الذي يقنبل البلد ويحرق أوصال الأمن والاستقرار الاجتماعي، ويحرك المياه القبلية والشرائحية والعرقية العكرة من أجل الاستيلاء على كل شيء - تافه في النهايةومن ثم حرق البلد لإخفاء جريمته؟!.
من هو النظام الحانوتي في تشخيصه لا في مظهره؟
إن المظاهر تتشابه غالبا ويسهل دفعها لأن تتشابه.. لكن في النهاية يسهل التفريق بين إناء ممتلئ وآخر فارغ، وسهل على الطبيب أن يفرق بين الشحم والورم.. وقد لا يكلف ذلك أكثر من إلقاء نظرةفي هذه المعالجة لن أشغل نفسي كثيرا بتشخيص الأنظمة الموريتانية.. إلا بقدر ما يخدم الرؤية التي سأعرضها على المواطن الموريتاني.. ليكون حكما قبل أن يأتي اليوم الذي "تجد فيه كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا" ويحكم الله فيه بين الناس وهو جل وتعالى أحكم الحاكمين.
هناك معطى بسيط يكفينا لتشخيص "حالة حانوتية" سلطوية..
يدرك الجميع أن أدوات البناء هي نفسها أدوات الهدم... إن رفع الأيدي والسواعد للأدوات لا يكفي لاستخلاص النوايا بأنها رفعت من أجل البناء... كما أن الإمساك بخيط لا يعني تسميك نسيج الحلة أو زركشتها، فقد يكون من أجل نقض الغزل بعد إبرامه. المشكلة هنا أن الخيوط الممسوكة كثيرة في الحلة الوطنية منذ الثامن والعشرين نوفمبر 1960، وإلى اليوم من 2013..ولا تقل أيادي ذات أبعاد قبلية واجتماعية وعرقية وأيديولوجية خطورة عن القبضة الفوقية التي ظلت جاذبيتها تحرك مختلف الأسلاك في اتجاه نقض النسيج الوطني. إن ما تصورته ذات يوم حركات أيدلوجية موريتانية حراكا ثوريا انقلابيا قد تم بيعه على الورق بثمن الخيانة.. كان أول ذلك قيام أشخاص معدودين ببيع "حركة الكادحين"، والتي مثلت ثورة جادة قبل أن تتفرق إلى حركات متمايزة إيديولوجيا وبذلك تم استئصال رحمها حتى لا تنجب.. فعن أي أبناء أكلتهم الثورة يتحدث البعض ؟
من المفارقات المستمرة وإلى الآن أن خمسة عقود من الركود و اللاوعي لم تقنع الموريتانيين بأنهم يبنون في سفح الهاوية.. لأن أي مقعد وظيفي كاف لفرملة نضالات النخبة. فثمة حالة جنونية تجتاح الأكثرية الساحقة من النخبة السياسية في البلاد، وكلما أمعنت النظر فيما يتوهمه البعض وعيا وعملا وطنيا.. أدركت أن الوعي الموهوم ما هو إلا بمثابة تشجيع لنزلاء مصحة الأمراض العقلية على بناء حقل للرماية.
ومن المفارقات الأكثر إيلاما أن حاوية البنزين وعود الثقاب لم تعد حالة محتكرة على "وڲاف" حانوت أدويره".. فقد صار الكل الآن - إلا من رحم ربك - مبللا بالزيت ومستعدا للعزف بأعواد الكبريت على أصابع الديناميت
... يتواصل ...


نحن والمسار الحانوتي الحلقة (الثالثة) د. الشيخ المختار ولد حرمه

نحن والمسار الحانوتي الحلقة (الثالثة) د. الشيخ المختار ولد حرمه

لقد أهداني مشكورا أخي و خليلي الشاعر و الكاتب الفذ و الأستاذ الموسوعي  بدي ولد أبنو كتابه "أودية العطش". أثار انتباهي لاحقا تقرير أعدته صحيفة "القدس العربي" حول هذه الرواية باعتبارها رواية تنبأت بالربيع العربي، الشيء الذيلم ينتبه له مؤطرو "أدب الربيع العربي". في هذه الرواية التي جاءت في شكل قصيدة ممهورة بكثير من البلاغة والتصوير الموحي، نرى صورة جبارة فنيا وشعريا وروائيا لذلك الحاكم الذي انتقل من صفة "الشخص التافه" بعد أن "تأله" ثم أُلِه" ليتهافت شعبه على تنفيذ أوامره بشرب الرمال باعتبارها إنجازا وفق "التعليمات السامية" لصاحب الكرسي.
إننا نعيش تماما، هنا في موريتانيا، "حكم أودية العطش"، وعقلية سلطة أودية العطش، ومن ثم ليس على الموريتانيين، بعد فقدانهم أبسط مقومات حياة الدولة، سوى أن يستسلموا ذاعنين و يشربوا رمال الديمقراطية لعل ذلك يسد خواء عميقا في بطون منظومة حكم الفرد.و أيا كانت الصور التي يظهر بها ذلك الحكم الفردي، فهو لن يكون سوى تعبير عن شرخ عميق في كيان الدولة، نفس الشرخ الذي عمقناه جميعا ومن مختلف المشارب والاتجاهات، عن سوء أو حسن نية، حتى غدا فوهة تبتلع كل المطامح البسيطة لإنشاء دولة، ولو ذات سيادة اسمية.
لماذا نفشل فيما نجح فيه الجيران محدودو الإمكانات على جميع الصعد. في السنغال وغامبيا ومالي وبنين توجد مؤسسات.. وفي موريتانيا يوجد أفراد.
هذه كارثة بكل المقاييس لا يمكن تحاشي سلبيتها على المدى القريب، أحرى المستقبل في الأمد المنظور.
أخشى أننا، رغم كل الدول الذرية والمتوسطة، نحن آخر دولة أفراد بقيت في هذا "العالم المتوحش" تنافسيا ومصلحيا.
من السهل الآن تشخيص هذه الحالة، أكثر من أي وقت مضى في تاريخ الأنظمة الموريتانية.. وذلك بسبب تدهور مستوى "الفردية" التي تحكم الدولة في الوقت الراهن.. ومن المهم الانتباه إلى أن "الفرديات" ليست استنساخية عن بعضها البعض، ففي تاريخ الأحكام والسلط الفردية عبر العالم وجدت فرديات أرفع مستوى من أخرى، بل حاول بعضها صعود سلم يوصله إلى الفضيلة و النموذجية، ولم يخل تاريخ البلاد من ذلك، والجميع على إلمام بتاريخ الأمير العادل ولد أحمد عيده في ثلاثينات القرن التاسع عشر.
كان نظام الرئيس الراحل المختار ولد داداهنظاما شموليا ضمن سياق شبه عالمي في ذلك الاتجاه وقتها، لكنهلم يكن نظام فرد بالمعني الحرفي للكلمة. فلم يكن الرجل مثل خلفائه، الذين اعتمد كل منهم القاعدة الكلاسيكية: "فرق تسد" والتي وصلت نتيجتها الظاهرة والباطنة إلى حكم رجل ليس أكثر من "ساعي بريد بين وطنه وبين جيبه".
كالعادة، يلجأ الحاكم الفرد للتغطية على "منكراته العمومية" بـ"منكرات ذاتية" للتحصن داخل أوعيتها الدموية المزيفة. و ذلك سلوك حانوتي بامتياز جسده ببراعة "وقاف الدويرة".

هذه اللعبة تنطلي بسرعة فائقة على العامة، وعلى كثير من النخبة في موريتانيا. في عالمنا الثالث المتخلف ليس هنالك ما يخدم نظاما أكثر من وصفه بأنه "نظام قبلي"، أي تتحكم ويتحكم ويخدم قبيلة معينة.
لقد رفض الرئيس اعلي ولد محمد فال خلال فترة حكمه(2005-2007) أن ينغمس في هذه اللعبة القذرة.. وتاريخيا أثبت أنه فوق "عقلية الحريم"، رغم كل المغريات التي كانت شاخصة أمامه.
عكس ولد محمد فال، انغمس حكم الفرد في لعبة قبلية قذرة هدفها تحصين حكمه أطول فترة معينة، عبر استنفار طاقات قبلية وأهلية لضرب خصومه بـ"نظام من فرد لفرد".
لم يقم ولد عبد العزيز بذلك حبا في قبيلته، قبيلة أولاد أبي السباع، هذه الأسرة الشريفة الكريمة، التي يكفيها عزة أن فطاحلة علماء موريتانيا وصلحائها وأوليائها خلدوا مآثرها عبر قصائدهم العصماء، وتزكياتهم الموثقة.. وهي، للتاريخ، حضن مروءة كريمة، وشهامة عالية، وفروسية مشهودة، ويكفيها شرفا انتسابها لآل البيت، صفوة الخلق والخلق والنبل والعزة.
آثر ولد عبد العزيز في اجتماعاته بالمقربين من أشخاص قبيلته في القصر الرئاسي، وفي منتجعاته، أن يصور لهم ما يقوم به على أنه يخدم القبيلة، وعلى أن حكمه هو "حكم أولاد أبي السباع"... في حين أن الرجل أساء كثيرا حاضرا و مستقبلا لهذه الأسرة الفاضلة، بتصرفاته في هذا الإطار، والتي أصبحت على كل لسان.. فهو الرئيس الموريتاني الأكثر حديثا في مجالسه الخاصة عن القبائل.. (الفلانيين طلبه، الفلانيين ماهم ش، أنا لا أثق في أي شخص من الفلانيين.. الفلانيين يكفيهم أنني عينت منهم مديرا ولم يكن فيهم رئيس مصلحة....إلخ).
إنني أشعر بالاشمئزاز عند تناول هذا الموضوع، وما تناولته إلا تقريبا للصورة من ذهن الرأي العام الوطني، وإن كان البعض يرى أنها أكبر من أن تحتاج لأدوات التقريب. فهي تهيمن على الشارع قبل المجالس الخاصة.
يقدم ولد عبد العزيز لبعض أقاربه معلومات خطيرة هدفها استنفار الحمية القبلية لعلها تطيل من عمر حكمه الآيل إلى الزوال لا محالة. لكن لكل أجل كتاب. فما ستكون يا ترى تركة ولد عبد العزيز للتاريخ و للأجيال المقبلة و لذويه؟ و ماذا سيبقى من ذكراه في الذاكرة الجمعية؟
يردد الرئيس أمام بعض الخلصاء من أقاربه أنه لأول مرة في موريتانيا يتولى منصبي "رئيس الجمهورية" و" رئيس مجلس الشيوخ" الذي هو بمثابة نائب رئيس الجمهورية، شخصان من قبيلة واحدة. و هذه سابقة في العالم اللهم ما كان من الأحكام الملكية.
ومراجعة عينة واحدة من هذه القائمة دليل لا يرقى إليه الشك على طبيعة حكم ولد عبد العزيز:
1.               رئاسة الجمهورية،
2.               رئاسة مجلس الشيوخ،
3.               وكالة سجل السكان والوثائق المؤمنة (هوية الشعب برمته)،
4.               إدارة الصندوق الوطني للضمان الصحي (90% من الأموال المرصودة للصحة)،
5.               الإدارة الفعلية لشركة الذهب،
6.               القائم على مصالح الرئيس في تسويق الغاز و البترول عبر شركةTULLOWلبريطانية
7.               قيادة أركان الطيران العسكري،
8.               إدارة أمن الدولة (الاستخبارات)،
9.               والي ولاية دخلت نواذيبو
10.          مكلف بمهمة في الرئاسة برتبة وزير،
11.          مستشار في الرئاسة برتبة وزير،
12.          إدارة التلفزة الموريتانية،
13.          رئيس اتحاد رجال الأعمال الموريتانيين
14.          8 من أصل 10 من موردي المواد الغذائية  من أقارب الرئيس،
15.         37 من أقارب الرئيس على رأس قائمة 50 رجل أعمال هم الأغنى في البلاد.

أصبح ولد عبد العزيز أول رئيس للبلاد يعتمد في كل شيء من تسيير أمور الدولة على أقاربه،بما في ذلك إدارة كل المرافق الحيوية للدولة وثرواتها.
هذه الأخيرة، الثروات، هي هدف "النظام الجيبي" في مساره الحانوتي القاتل.

دعونا لا ننشغل بالطلاء عن طبيعة الجدار ومكوناته.. فالنظام القائم يريد أن يلهينا بقمصانه الحمراء عن لعبته القاتلة للوطن، المفنية للأمة.

قمصان حمراء.. تتجلى في مظهر قبلي، وفي مظهر جهوي، ومظهر شرائحي حقوقي، ومظهر عرقي، هو الشماعة التي تعلق لإخافة القوى الحية من الإقدام على  التغيير..هو الرئيس الذي يعبأ خزانه القبلي، ويشعل نار الفتنة العرقية، ويفجر حساسيات الشرائح..آخر ذلك ما يفوح من رائحة  أزكمت الأنوف من مجالس القصر الرئاسي: "حكم عزيز آخر حكم للبيظان في موريتانيا". و كأن الموريتانيين يخيفهم أن يتولى رئاسة الجمهورية أحد أشقائنا و مواطنينا الزنوج.. أو كأننا في دولة يمارس فيها الميز العنصري المقيت و لسنا في دولة عربية إفريقية شعبها مسلم و مسالم.
فما الذي يخطط له أباطرة النظام؟ أهو حرب أهلية تخفي الجرائم التي يجري تنفيذها منذ خمس سنوات، تطمس بذلك آثار النهب الذي تتعرض له ثروات البلاد؟.

منذ عام 2005، تضاعفت ثروات ومداخيل موريتانيا بنسبة 800%، وفق أبسط حساب يتم إجراؤه.. فقد انتقل سعر طن الحديد من 27 دولارا إلى 70 دولارا الآن، وتدفقت شلالات من مئات الملايين من الدولارات على قطاعات النفط والتنقيب، وبدأ إنتاج الذهب بكميات خيالية (شحنة كل أسبوع)، وزادت تمويلات المانحين من نصف مليار إلى 5 مليارات دولار، فضلا عن المشاريع التي تنفذها هيئات التمويل العربية والإسلامية (آفطوط الساحلي والمياه، التعليم، الطاقة، الطرق، تمويل تسليح وتدريب الجيش.... إلخ)، ثم الحجم غير المسبوق للهبات والمساعدات والقروض المقدمة من الدول الشقيقة والصديقة.

لم نذكر قطاعات الصيد و الزراعة و التنمية الحيوانية و البنوك و الشركات الأخرى و الضرائب التي تحقق فائضا بـ 147 مليار أوقية بعد أن تخصم منها مرتبات موظفي وعمال الدولة، التي لا تتجاوز 103 مليارات، وفق الأرقام التي أعلنها الرئيس نفسه في لقاء النعمة. نفس الرئيس الذي يتبجح بكل مناسبة و من غير مناسبة أن خزينة الدولة مكتظة  بالمليارات من العملة المحلية و من العملة الصعبة في الوقت الذي يعيش فيه 70% من الشعب تحت خط الفقر المدقع و تجتاح المجاعة بعض مناطق الوطن. يا لها من مفارقة أليمة و سخرية آثمة.  الأطفال و الشيوخ يموتون جوعا و عطشا و مرضا في "آدوابه" و "الكبات، و الخزينة مكتظة، "كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه و ما هو ببالغه" (الرعد).

أجريت الدراسة الجدوائية لإنتاج الذهب من طرف "تازيزات" على أساس أن الشركة المستثمرة والبلاد ستحققان ربحا خياليا ببيع الذهب بسعر 350 دولارا للأوقية، وخلال فترة تجهيز المصنع ومع بدء إنتاج الذهب من المنجم، قفز سعر الذهب عالميا إلى 1700 دولار للأوقية.

كم هي الشحنة التي تحملها طائرة خاصة كل أسبوع.. وسط طوق من السرية لم تشهده أي منشأة في البلاد؟

أين تذهب مليارات الدولارات الناتجة عن عمليات الاستخراج والتنقيب والاستثمار من طرف أكثر من 170 شركة أجنبية تعمل الآن في قطاع المناجم وحده، وأين المليارات التي يجري تحصيلها من قطاعاتنا الاقتصادية (الحديد، الصيد البحري، الذهب)؟!

وما نتائج العمليات الغامضة الدائرة بأساليب وسخة مع الشركات الشرهة في العالم والجهات المشبوهة من شركة (بولي هوندون)، إلى "صناديق آكرا"، إلى صفقة بيع "المستجير" السنوسي.. والعرب لا تسلم الأجير مشركا كان أم مسلما: "و إن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه"(التوبة)

أخشى أن مياه التعتيم غمرت رأس الجبل فتم إخفاؤه كله.
ما دام الشعب الموريتاني لا يجد من الخدمات إلا عبثية "حوانيت أمل"الهزيلة المهينة، فبكل بساطة لا تذهب مداخيل الثروات والتمويلات وأموال الشبهات إلا في اتجاه واحد هو رجال أعمال الرئيس الجدد، وسماسرته في الخارج.

جيل ممن كانوا يلتقطون البعرة، أصبحوا يديرون المليارات والشركات والبنوك، و يبذرون مبالغ خيالية كل ليلة في الكازينوهات و الفنادق الفاخرة للدول المجاورة، وكل ذلك على أنقاض رأس المال العمومي والخاص، وهذا الأخير تم التنكيل بهلأنه لم يستوعب التعامل مع حكم جيبي إلى هذا الحد.هكذا أصبح تفليس رجل الأعمال الناجح محمد ولد بوعماتو الذي كان يسدي كثيرا من أعمال الخير للطبقات المحرومة، ونظرائه ممنأفنوا أعمارهم في بناء مجموعات مالية و اقتصادية،وكأنه هدف "الربيع المالي" الذي يقوده النظام الحالي، والذي لم يجد لإدارة تجارته وثرواته وأمواله السائلة والمنقولة سوى جسر من رعاع الأنفس، الذين كانوا مضرب المثل في التسول على أبواب الشخصيات الاجتماعية. ذلك أن ولد عبد العزيز اجتهد في إقصاء و إبعاد أصحاب الكفاءات و أهل المعرفة و الفضل وبرع في انتقاء من يرتاح للعمل معهم وفق معياري القبلية و المحدودية الثقافية و المعرفية، سواء تعلق الأمر بالتعيينات في المناصب العلياء للدولة أو ب "التعيينات البرلمانية". و كما نسمع من حين لآخر عن الجيل الجديد من فيروسات الطاعون و الجدري، كون هؤلاء جيلا جديدا أكثر خطورة و دهاء في سرقة أرزاق الشعب و نشر ثقافة اللاثقافة و تشجيع اضمحلال الأخلاق و إبقاء موريتانيا في الحضيض. و من تجليات هذا الواقع الحضيضي الأليم إقدام شاب موريتاني على سب الرسول الأكرم والتبجح بنشرها على أوسع شبكة معلومات في العالم. لم يأت ذلك من فراغ..فقد جاء في فترة قام فيها نظام الجنرال ولد عبد العزيز بتقييد إرادة من يسعون لموريتانيا المستقبل، وبالمقابل قام بإطلاق العنان للأنذال و الأراذل و الفساق و لعصابات السوء الأخلاقي والفكري والحقوقي من أجل تجاوز كل الخطوط الحمراء والمقدسات، للتغطية على فعلاته الانتخابية و إلهاء الشعب عن منكراته الاقتصادية، و لا يعبأ إن صار نبي الرحمة و شفيع الأمة يتلقى الإساءة من أرض المنارة والرباط.

قبل اليوم صدم المجتمع الموريتاني بحثالة حقوقيين يسبون العلماء ويحرقون الكتب الفقهية بما فيها من آيات بينات وأحاديث شريفة، وهكذا طفقوا يروجون ثقافة العنصرية والكره والبغضاء بين فئات شعبنا الواحد.. فلم يسلم منهم عالم ولا مصلح، ولا فئة اجتماعية.. وترك لهم الحبل على الغارب لتشويه حضارة الشناقطة حضارة العرب والأفارقة المجاهدين العظام في هذا الثغر الأبي الذي  ما لم يدرك فيه بالتي هي أحسن لن يدرك بالعنف و الهمجية و العنجهية.

واليوم يأتي شاب مأجور القلم و الحنجرة، من التيار الإلحادي المتغرب، الذي هو نتاج حكم عزيز، ليتهم الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام بالعنصرية، ويدافع بمقاله المسيء عن يهود خيبر..!

من منكم كان يتصور مشهدا كهذا في أرض المسلمين،.؟ لكن  الذي لم يقع في هذه الربوع على مدى أربعة عشر قرن، و لم و لن يقع في بلد إسلامي آخر، وقع اليوم تحت نظام وحكم ولد عبد العزيز مدنسا به أرض الشناقطة العظام، أرض المرابطين الفاتحين. إنها حقا محنة و ابتلاء. نسأل الله تعالى أن لا يؤاخذنا بما فعله السفهاء منا.

لقد كان غضب الشعب الموريتاني و ردة فعله على هذا الإجرام الشنيع على مستوى الحدث الجلل الأليم، فخرجت الحشود من كل صوب و حدب نصرة لله و لرسوله منددة مستنكرة، فهاجمت القصر الرئاسي و اقتحمته محملة النظام مسئولية هذه الانزلاقات و هذا الإفلاس الخلقي الذي يرعاه النظام الحانوتي.

و يخرج لهم محمد ولد عبد العزيز خرجة الإمام المصلح، ليخاطب المتظاهرين المصدومين بقوله "إن موريتانيا ليست علمانية وإن الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل اعتبار، ولا يمكن بأي حال من الأحوال المساس بدين الدولة والشعب".

ويقول عزيز "كما أكدت لكم في الماضي أؤكد لكم اليوم مجددا إن "هذه الدولة دولة إسلامية وإن الديمقراطية لا تعني المساس بالمقدسات... وأجدد التأكيد مرة أخرى أن رئيس الجمهورية والحكومة سيتخذون جميع الإجراءات من أجل حماية ديننا الإسلامي وأن العدالة ستأخذ مجراها وأن المعني الآن بين يديها تتابع التحقيق معه".

ما أشبه الليلة بالبارحة...

بالأمس خرج الجنرال عزيز بنفس الزي و اللثام  ليقول نفس الكلام عندما قام بيرام ولد أعبيدي بحرق أمهات كتب الفقه الإسلامي في العاصمة نواكشوط.. لقد تعهد الجنرال يومها أمام نفس المتظاهرين بحماية مقدسات الدين وبمحاكمة الجناة.

ترى هل تمت محاكمة من حرقوا الكتب الإسلامية؟ وماذا كانت نتيجة تعهد الجنرال؟ ألم تكن كذبة مشهودة؟ فمن حرقوا كتب الإسلام ينعمون اليوم بجوائز الأمم المتحدة وبفنادق الغرب المتصهين وبأمواله.
وكل ذلك بسبب لا مبالاة الحكم الفرد بأساليبه الحانوتية، بقيم الدين والمجتمع ومصالح الأمة.

يذكرني ما يجري في موريتانيا بحكم"ديونيسيوس"حاكم سرقوسة،الذي حاز السبق التاريخي بإرسائه أول حكم للمرتزقة تحت مسمى الديمقراطية المرفهة. وطوال التاريخ لم تتخلص الدول التي حكمتها العصابات من إرثها العصابي إلا بكثير من الدماء والفتن.

في موريتانيا.. لا تتوقعوا أن ينصف"قارقوش" فلاحا.. لأن إدراكه لتسيير الشأن العام منوط بمحدودية ذكائه، قبل أن يكون وليد شهوة مرضية مما زين للناس، وفق مدلول الآية الكريمة الشهيرة."زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة  من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث. ذلك متاع الحياة الدنيا و الله عنده حسن المآب". (آل عمران)

نحن هنا أمام واقع مر ومرير، أمام أمة تباع مصالحها بالجملة والتجزئة.. حتى بطاقة الهوية الوطنية دخلت مزاد الاستثمار الفردي، بأبشع صورة تقع عليها العين.
ألم يتوقف أحدكم عند تجل بسيط لظاهرة "الحكم الجيبي".. إذا نظرتم إلى بطاقة التعريف الوطنية الجديدة ستجدون أنه مكتوب عليها أنها صادرة عن إدارة الأمن الوطني، وهي الصادرة عن "إدارة أمربيه ولد الولي"، الاسم الشائع لهذه الإدارة لدى المواطنين البسطاء و لا علاقة لها البتة  بإدارة الأمن. 
لقد كانت هذه المهزلة المضحكة المبكية و التي وصفت بأنها انتخابات، فضيحة سياسية و أخلاقية حولت الانتخابات البرلمانية و البلدية إلى أهازيج فولكلورية و مبارزات كانتونات في أغلب المناطق حيث أيقظت حاسة المرجعية القبلية بشكل مخيف يعيدنا إلى مربع الصفر إن لم نقل إلى قعر الجحيم السياسي القادم. و ما جرى في هذه الانتخابات من ما يندى له الجبين و تقشعر منه الأبدان هو عربون و نذير من النذر الأولى لما يخطط له و ينتظرنا في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
يا للحد الذي وصلته السخرية من هذا الشعب.. إنه فعلا يرغم على شرب الرمال.. ويسام ذلاّ في أودية العطش النفعية.

البلاد الآن تدخل أسوء حقبة عرفتها على مر التاريخ، لم تصلها في أحلك الحقب الطائعية... البلد الآن يجري عكس عقارب ساعة التغيير.. المجتمع يسلم مفاتيحه لسدنة الفساد.. عملية الاستنساخ أنجبت من رحم الفساد نفس الوجوه بملامحها، بلعبها بالكلام والمفاهيم، بنواياها ومبادئها الخلفية. لا شيء تغير.. الناس تسير في الهاوية نفسها.. 
النخبة الفكرية والسياسية، إلا من رحم ربك، تمالأت أيضا وأصيبت بخرس مريب. ألا أذكركم أن الصامت على الباطل شيطان أخرس.
ليس الآن من السهل انتزاع موريتانيا من بين مخالب طائر الفساد المحلق منذ الآن بخيله و رجله فوق صناديق اقتراع  الرئاسياتالوشيكة و فوق الضمائر المريضة و الذمم الرخيصة، يعدهم و يمنيهم.
السياسة معركة لا يموت  فيها  سوى الشعوب المغفلة والأوطان المهملة.
البحث عن الكرامة الوطنية في هذه التلال أصبح مستحيلا في هذا الظرف... ومع كل هذا التغيير الذي نخرج منه بلا تغيير... جعجعة بلا طحين.
ما الذي يمكن للنخبة الوطنية فعله إزاء ما يجري؟ وقد بلغ السيل الزبى، وتجاوزت خطوات التراجع كل التوقع مع التسيير البرزخي للبلاد ومصالح الأمة الموريتانية؟
ثمة العديد من المحاور التي يجب أن نتحرك الآن باتجاهها دون تردد، فصناعة الفرص أفضل من انتظارها. و كما قرأت لأحد الكتاب "لا بد من مشروع ما بعد التحرير قبل التحرير".
سأتحفظ قطعا على تقديم الحلول الفرضية، التي تسمى في الخطاب السياسي بالوصفات الجاهزة، ولكن ثمة تصورات وأفكار يمكن نقاشها وتطويرها لإخراج البلاد من المساحة ما بين المطرقة والسندان، المساحة ما بين الجمر والرماد.فميزان القوة سهل التغيير أمام بوصلة سياسية واعية بظروف ومعطيات المجتمع ونقاط القوة والضعف. ولا شك أن الحكم الجيبي في مساره الحانوتي هو الأسهل مشاغلة عن خطة محكمة في هذا المجال لإعادة تأسيس الدولة على أسس سليمة، لأنه ببساطة مشغول البال بجمع المال، والله تبارك وتعالى ما جعل لرجل من قلبين في جوفه.

نصيحة و موعظة لمن يهمه الأمر،كي لا تأخذني في الله لومة لائملأن الله يسأل عن صحبة ساعة. مع العلم أنه سيوجد من بين بطانة و موالي  من سيسفه له نصحي و مقالي و يزين له الصدود عنه والتعالي. لكن لست بذا الشأن أبالي، فالله حسيبي في قصدي و نيتي و فعالي، فأقول  و عليه معتمدي و اتكالي:

·       تأمل أيها الرئيس هذه الآية لعلها تحدث لك ذكرى. و إنما يذكر أولو الألباب: "و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة و تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم و ما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء. لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون" (الأنعام).
·       اعلم أن لكل مواطن عليك حقا سوف يقاضيك فيه بين يدي الله "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا. و يحذركم الله نفسه". فهل أعددت حجتك؟
·       اعلم أنه "من يغلل يأتي بما غل يوم القيامة".
·       اعلم أنك ستحمل أوزارك و أوزار كل مظلوم و محروم و أوزار من يضلونك عن الصراط السوي و اعلم أن العقبة كأداء "و إن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء و لو كان ذا قربى".
·       اعلم، و أنت سليل العترة الطاهرة و النسب الأعلى، أن الحسنة حسنة و هي في بيوت النبوة أحسن و أن السيئة سيئة و هي في بيوت النبوة أسوء. "يا نساء النبي من يأتي منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين و كان ذلك على الله يسيرا. و من يقنت منكن لله و رسوله و تعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين و أعتدنا لها رزقا كريما" (الأحزاب).
اللهم إنك قلت و أمرت"فذكر بالقرآن من يخاف وعيدي" اللهم إني قد فعلت. اللهم فاشهد.
·       و في الأخير تأمل أيها الرئيس هذه الأبيات :
أين الملوك و أبناء الملوك ومـن            كانوا إذا الناس قاموا هيبة جلسوا
كأنهم قط ما كانوا ولا خلقــــوا               ومات ذكرهم بين الورى ونسوا
حطوا الملابس لما ألبسوا حللا              من التراب على أجسادهم و كسوا

اللهم إنا نسألك حسن المآب.
رسالة إلى إخوتي في المعارضة المحاورة و من يحذو حذوهم
السلام عليكم أيها الزعماء الأجلاء، رموز الصمود و النضال في بلاد الرجال.. كفاكم مهادنة وعقلانية.. كفاكم أيضا من الصبر والحكمة والموعظة،  فمن تخاطبون بالمودة وطلب الحوار والسجال  هو من يملك الصفقات و العمولات و العقارات والاستثمارات والمناصب والمغاصب.. ولن يتنازل عن جنته ولن يتخلى عن شيطانه و لن يسلك بالدولة إلا طريقا واحدا..  انسوا أمر "الأنظمة الفاضلة"..
لا تكونوا عامل تبرير، وديكور توظيفي في مشهد سياسي ملوث، كفاكم من سياسة التعازي، والقبول بالأمر الواقع وانتظار الفرج... لا تكونوا كما كنتم.. وإلا فإنكم وحاملها وبائعها و شاريها وشاربها واحد..انتبهوا لحرثكم! لقد قطف الآخرون ما زرعتم أو كادوا. انتبهوا ليومكم، فلا تغرنكم حصيلته... انتبهوا لغدكم و إلا فإن أمامكم خمس شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون... من كرامتكم و مصداقيتكم.... اصمدوا و دافعوا و قاوموا و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين... و سيأتي الله بعام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون.
يتواصل...