الجمعة، 15 مارس 2013

إمام العارفين محمد المشري بن عبد الله بن الحاج العلوي


إمام العارفين محمد المشري بن عبد الله بن الحاج العلوي
(1335هـ ـ 1395هـ)

مولده ونشأته
هو محمد المشري بن عبد الله بن الحاج العلوي، ولد سنة 1335هـ الموافق 1917م، قرب موضع اجَرّارية في منطقة العقل بولاية اترارزة، والده عبد الله ابن الحاج (تياه) المتوفى سنة 1928م,أحد أكابر العلماء والأولياء في زمانه، ووالدته الطيبة الفاضلة عمرانة بنت المختار ولد المداح المتوفاة سنة 1943م.
في تلك الأسرة الطيبة تربى ونشأ محمد المشري -ينهل من قيم الخير والصلاح ويتشبع بمعاني الطهر والورع وخصال القناعة والصدق والشهامة والإباء والتواضع- وقبل منتصف السنة الثانية عشر من عمره توفي عنه والده وكان على وشك ختم القرآن، ثم شمر عن ساق الجد والاجتهاد في تحصيل العلوم الشرعية مع القيام على الأسرة إذ كان أكبر أشقائه.
كانت العوامل السابقة كلها مع ما تميز به من ذكاء وسرعة بديهة وعلو همة وقوة عزيمة، تتضافر لتحثه على بذل المزيد من الجهود في طلب العلم وتحصيله، فقصد أشهر علماء المنطقة من أمثال أحمدٌ ولد دهاه العلوي الملقب (ودُّو) وببا ولد عبد الرحمن الشمشوي، كما أخذ عن محمدن ولد احويبلا الحسني، وألمين ولد سيدي الديماني.

مكانته العلمية والروحية :
أجازه الشيخ إبراهيم انياس الكولخي إجازة مطلقة في علوم الشريعة والتصوف, فكان من أكابر المشائخ المربين والدعاة إلى الله في موريتانيا، ومنطقة الغرب الإسلامي قولا وعملا وحالا،، كما كان من أجلاء العلماء ونوابغ الشعراء والحكماء والوجهاء، وأهل الحل والعقد في قومه ومنطقته، تولى التدريس والإفتاء والتربية الصوفية و عرف بورعه، و كان عابدًا منفقًا عطوفًا، وداعية خير وإصلاح.
تميزت شخصية الشيخ محمد المشري بن عبد الله بن الحاج العلوي، بدورها الرائد، ومكانتها الرفيعة على جميع الأصعدة الاجتماعية والعلمية، والتربوية والروحية، وكان يتمتع بمميزات فطرية واضحة، كالهمة العالية، والفكر الثاقب، والشخصية القوية الجذابة والمؤثرة التي التف حولها الآلاف من الباحثين عن اليقين الساعين إلى الارتقاء في مدارج الإحسان.
ولعل من الأمثلة التي تجسد الدور الفاعل والمكانة العلمية والاجتماعية والروحية للشيخ محمد المشري ، ذلك النموذج التربوي المتكامل الذي جسدته وما زالت تجسده قرية" معطى مولانا" الواقعة وسط ولاية الترارزة بموريتانيا، حيث عمل محمد المشري منذ أكثر خمسين عاما وفي ظروف بالغة الصعوبة على استقرار السكان وتحضرهم، في وقت كانت حياة البدو وانتجاع المراعي هي السمة الغالبة على حياة الموريتانيين، كما بذل الرجل في وقت مبكر، جهودا جبارة من أجل أن يتسلح أبناء هذه القرية بالعلوم الحديثة ويستفيدوا من التعليم العصري جنبا إلى جنب مع تعلم العلوم الشرعية واللغوية، مما يدل على مستوى رفيع من الوعي بضرورة مواكبة المسلمين للعصر الذي يعيشون فيه، ويعبر عن درجة عالية من تحمل الأمانة والمسؤولية التاريخية ، لنشر الدعوة ونصرة الحق ، وبث الفضيلة.

منهجه التربوي :
حث الشيخ محمد المشري باستمرار في أشعاره وخطبه، وفي حديثه اليومي، ومن خلال سلوكه وعمله الشخصي، على العمل الصالح، والسلوك المستقيم، وإخلاص العمل لله، ومراقبته مع الأنفاس، فكانت شخصيته النادرة، بشهادة القريب والبعيد، مدرسة في الجد والنصح والإخلاص والشجاعة وقوة الإرادة، مع تواضعه، وحسن خلقه، ورحمته ورفقه بعباد الله.
وانتهج الشيخ محمد المشري في تأدية رسالته التربوية أساليب متنوعة تراعي الظروف والأحوال فكان يلقي خطبا يتناول فيها أهم القضايا المطروحة وكثيرا ما تكون تلك الخطب يوم الجمعة عندما يلتقي أكبر عدد من الناس لأداء صلاة الجمعة, وأكثر ما كان يحث عليه هو تذكير الناس بما اجتمعوا من أجله وحثهم على الاشتغال بالذكر ومراقبة الله وقراءة القرآن والإخلاص في العمل, كما كان يوجه في بعض الأحيان رسائل عامة يعبر فيها عن موقف أو عن رأي يتعلق بحدث أو ملاحظة أو تنبيه أو تذكير, كما كانت له مراسلاته الخاصة مع تلاميذه حيث يخاطب كلا منهم حسب حاله ويجيب على تساؤلاتهم التي كثيرا ما يطرحونها عليه كتابيا, ويمكن القول بصفة عامة إن تلك الخطب والمراسلات قد تركت الأثر الكبير في الجيل الأول من سكان القرية وشكلت أساسا متينا للمدينة التربوية الناشئة وما تزال تلك التوجيهات المسموعة والمكتوبة تمثل حتى الآن مرجعا ودليلا يتزود منه كل الطامحين إلى مراتب الإيمان والتوحيد الخالص, حيث تنتشر خطب محمد المشري ورسائله في مختلف بيوت القرية يسمعها الكبار ويقرؤونها فتدمع عيونهم شوقا لتلك الأيام السالفة, تملؤهم الرغبة في أن يتمسك الأبناء بذلك النهج ويسيرون عليه لا يحيدون.
ويعكس ديوان محمد المشري بجلاء ذلك المنهج التربوي ويتميز بطابعه العرفاني الصوفي، و يتجلى ذلك في استخدامه لرموز المتصوفة، و حديثه عن مشاربهم وأحوالهم، وله شعر في مديح النبي صلى الله عليه وسلم، ومدح أشياخه من العلماء ورفاق الطريق.
وفيما يلي نتوقف مع نموذج من شعر هذا الشيخ الجليل الذي استحق بجدارة لقب "إمام العارفين" كما وصفه بعض أحبابه العارفين به:
لحضرتنا الغــــــراء سر به ربـــــى :::خديم لها من حيث كانت ولا قطبــا
ونحمدها بالسر والروح سرمــــــدا :::ونحمدها جسما ونحمدها قلبـــــــا
وإن كان عنها البعض قد صد حائرا::: فنحن لها سلما ونحن لها حربـــا
ولم نعتمد إلا على الله وحـــــــــــــده:::ولم نتخذ شيخا نبيا ولا ربّـــــــــا
لأنا عبيد الحق لا نعبد السوى ومن :::كان عبد الحق لا يختشى العقبــى
ونرحم كل الخلق حبا لربنــــــــــــــــا::: ولا نختشي ليثا ولم نحتقر كلبـــا
فإن جاءنا ذو اللين فاللين دأبنـــــا:::وإن جاءنا صلبا يجد موقفا صلبـــا
ومن رام منا أن نصير لباطــــــــــل::: فقد رام أمرا مستحيلا لنا صعبـــا
نصلي على المختار ما انهار باطل وما اتسعت أمداد من عرف الرّبّـــــا

لا عجب إذن أن خرجت هذه الكلية التربوية، تلك الأعداد الكبيرة من الأطر والشخصيات المتميزة في سلوكها وعطائها ومكانتها الثقافية والعلمية،وهو العطاء الذي مازالت إشعاعاته تمتد وتنتشر على أيدي خريجي مدرسة محمد المشري، متجاوزة حدود بلاد شنقيط، إلى بقاع أخرى في إفريقيا وآسيا وأوربا وغيرها.
وما تزال قرية "معطى مولانا" تستقطب اهتمام الكثيرين داخل موريتانيا وخارجها لما تتميز به من ميزات وخصائص تجعل الزائر والمراقب لها يحس بأن فكرا عبقريا وهمة عالية كانت وراء تأسيس ورعاية هذه القلعة التربوية الشامخة.


مؤلفاته:
ترك محمد المشري رضي الله عنه عددا من المؤلفات والرسائل منها:
- ردع أسنة الأوغاد عن أهل السنة والرشاد
- القنابل اليدوية في الذب عن جميع الصوفية
- ديوان شعر- حققه عبد الله بن الهادي في رسالة تخرج من المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، وقد نشرته رابطة فتية الإيمان بمدينة معطى مولانا، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الخطب و الرسائل.

لقد عاش الشيخ محمد المشري إحدى وستين سنة، قضاها في العمل الجاد والمخلص والمثمر، حتى توفي سنة 1395 هجرية، ولكن آثاره وتربيته، بقيت حية ومؤثرة، في حياة كل من عرفوه أو قرأوا آثاره ، أو سمعوا عنها، وهو ما يجعل عطاء الرجل وتأثيره يستمر ويمتد لأجيال قادمة ، مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) .صدق الله العظيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق